حضر إلى “دوحة العرب” بأحلام تحدها السماء، يحمل بين عينيه آمالا مشروعة في أن يُسمع شعره من له قلب، تسمع في صوته أجراس البقاء والرحيل في آن واحد، تنسل من بين كلماته مسحة صوفية، ونوادر كلاسيكية، تمتزج بروح شاب أنهكه خياله الفسيح، بينما يقطر حبره بالحداثة والآنية، يبحث في داخله عن الهدوء الذاتي، والسلام الروحي، ويؤمن بأن الشعر يتخطى الوجود المادي والجانب الحسي إلى عوالم أخرى لا تحدها الحروف والكلمات.. وخصوصا إذا كان هذا الشعر يتغنى في مديح خير الأنام، محمد صلى الله عليه وسلم…

إنه الشاعر العماني جمال عبدالله الملا، الذي تُوج بالمركز الأول لجائزة كتارا لشاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم، في نسختها الأولى، وحظي من بين 30 شاعراً تأهلوا للتصفيات النهائية بشرف حمل لقب “شاعر الرسول” بعد أن حازت قصيدته بعنوان “النبي” استحسان المحكمين، واستلبت قلوب وألباب كل من استمع لها..

يقول الملا في حوار لـ “بوابة الشرق” إنه حرص عند كتابة قصيدته أن تمثل – قدر الإمكان – الحقيقة المحمدية الشريفة، أو حتى أن تمسها من قريب أو بعيد، فهو يؤمن بأن مقام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن تصفه كلمات أو تؤطره حالات شعرية، وهو في نهاية المطاف لن يوفيه صلى الله عليه وسلم حقه، ولو استعان بماء البحر مداداً..

الملا أشاد بفكرة جائزة كتارا لشاعر الرسول، مشيرا إلى أن أهم ما يميزها أنها بعيدة عن أساليب المتاجرة و”الشو الإعلامي” في عملية التصويت، كما يحدث في بعض المسابقات، وقد ساق أسمى معاني الشكر والتقدير للقيادة القطرية صاحبة الرؤية الفريدة في إنشاء هذا الصرح العظيم، ممثلة في حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى وحضرة صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، حفظهما الله.

وأعرب عن إعجابه بالتجربة الإعلامية والثقافية القطرية، معتبرا أنها الأهم على المستوى العربي، وأكد أن قطر قادرة على قيادة مسيرة الحركة الثقافية العربية والإسلامية، بفضل قيادتها الشابة الواعية الداعمة للإبداع، وبما يتوافر بها من بنية تحتية ثقافية مميزة، وشعب محب للثقافة والتراث والتاريخ، ومشاريع عملاقة في شتى المجالات.. لذلك أصبحت قطر محط أنظار الجميع.

وحذر الشاعر العماني من أن زيادة عدد متابعي الشاعر بمواقع التواصل الاجتماعي لا يعني أنه يتصدر المشهد، وبين أن مواقع التواصل الاجتماعي أثرت في النتاج الأدبي والثقافي كله، وللأسف لم تتحول إلى وسائل بقدر ما تحولت إلى مقاصد، ودعا الأدباء والشعراء إلى توخي الحذر في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أنهم يجب أن يوفروا مسافة أمان بينهم وبين المنصات الاجتماعية، حتى تنضج تجاربهم الأدبية وتكتمل .

الملا أهدى الجائزة إلى صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، بمناسبة عودته سالما إلى أرض الوطن بعد رحلة علاجية في ألمانيا، وللشعب العماني وكل من سانده، وأعرب عن تفاؤله بمستقبل الشعر الخليجي، مشيرا إلى أن حكامنا ولله الحمد يدعمون الثقافة والمثقفين، لأنها تحصن الأوطان من التطرف.

وفيما يلي نص الحوار:

 

** حدثنا عن نفسك وتاريخك الشعري، وأهم المحطات في حياتك؟

-أنا من مواليد ولاية شناص بسلطنة عمان، درست الإنجليزية في المملكة المتحدة، وحاليا أدرس الإعلام، وأعمل مراسلاً تلفزيونياً ومذيعاً بقناة سما دبي.. تلمست طريقي مع الشعر في سن صغيرة، وكان طريقي مضاءً بالهمة والاشتعال الداخلي، والرغبة والشغف تجاه هذا العالم، وكانت لي تجارب شعرية في مراحل التعليم الأولية، يغلب عليها طابع الهواية، بطبيعة الحال..

بعد المرحلة الثانوية سافرت إلى المملكة المتحدة لدراسة اللغة الإنجليزية، وكان من المفترض أن أعود بالشهادة، لكنني عدت بالشعر، فتجربة الغربة مثلت نقلة روحية ملهمة في حياتي، وأفرغت كل مشاعر الحنين للوطن في الشعر..

كما أن هناك شخصيات بارقة لمعت في تلك المرحلة من حياتي على مستوى الشعر، منهم: الشاعر العماني محمد عبدالكريم الشحي، وهو من أبناء شناص وكان يدرس الدكتوراه في جامعة ليفربول وتزاملنا في نفس المرحلة، وهو الذي أخذ بيدي وأضاء لي أولى الشموع في طريق الشعر..

بعد عودتي من المملكة المتحدة، بدأت رحلتي بهمة وشغف أكبر، وتأثرت في تلك المرحلة، ببرنامج أمير الشعراء، فقد كان تجربة شعرية ملهمة.. كما ساهمت أشعار محمود درويش، والجواهري، وعبدالرزاق عبدالواحد، وعارف الساعدي، وغيرهم، في ترشيق كلماتي وقصائدي..

شاركت في برنامج “أمير الشعراء”، مرتين، لكنني لم أكمل المسيرة حتى المراحل النهائية، بسبب ظروف التصويت، وعلى الرغم من أن خروجي من المسابقة شكل خيبة أمل كبيرة، إلا أنني شعرت أن ذلك توفيق من الله عز وجل، فأحيانا الولادة المبكرة غير صحية، ولطالما أسير على الطريق، فحتما سأصل بإذن الله..

 

** وكيف اشتركت في جائزة كتارا لشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم؟

-بدأ الأمر عندما أرسل لي أخي المقيم في دولة قطر، تغريدة للدكتور خالد السليطي، مفادها أنه “قريبا سيتم الإعلان عن جائزة شاعر الرسول” فقط دون تفاصيل، وشجعني للمشاركة..

وعندما علمت أن المسابقة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، انتابني الخوف، فأنت هنا لا تتكلم عن الإنسان، بل تتحدث عن حقيقة مطلقة، وهذه الحقيقة تقيدت ذات يوم في مكة، قبل 1400 عام.. وفجأة وجدت نفسي أمام بناء عظيم شامخ، كيف أدخله، أو أتعامل معه؟ وحقيقة خشيت أن أتجرأ على مقام النبي صلى الله عليه وسلم..

 

القصيدة الفائزة

** حدثنا عن ظروف كتابة قصيدة “النبي” صلى الله عليه وسلم التي فازت بالمركز الأول؟

– استغرقت 6 أشهر حتى أنتهي من كتابتها، البيت الأول قدح في ذهني فجأة وأنا في طريقي إلى عملي في الإمارات، وكان عبارة عن مشهد سينمائي مقتبس من دخول سيدنا موسى في الوادي المقدس طوى، ومناداته لربه، وهي كناية عن هذا المشهد، ومن ثم انسلت الكلمات والمعاني إلى ذهني..

حرصت بقدر استطاعتي أن تمثل القصيدة قدر الإمكان الحقيقة المحمدية الشريفة، أو حتى إيحاء من قريب أو بعيد لهذه الحقيقة، لأن مقام النبي لا يمكن أن تصفه كلمات أو تؤطره حالات شعرية، وأنا في نهاية المطاف لن أوفيه صلى الله عليه وسلم حقه، ولو استعنت بماء البحر مداداً..

وهنا أدعو نفسي والشعراء في النسخ القادمة من جائزة شاعر الرسول، لتوخي الحذر في التعامل مع مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك محاذير حين الشروع في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل الهوى والشهوة والطائفية.. وأسأل الله أن يجنبنا ذلك.

 

** الجائزة قيمتها 300 ألف دولار.. التكريم المادي والمعنوي للشاعر يمثل بلا شك شحنة موجبة تدفعه لتحقيق المزيد من النجاحات والإنجازات، ماذا تمثل لك الجائزة؟

– كإنسان عادي، المال يغير حياتي ويسهل أموري، فالمبلغ ولله الحمد سيغطي ديوني ويحل أزماتي المالية، بيد أنه في المقام الأول سيدخلني في مرحلة صفاء لأتفرغ نسبيا للشعر، وأسخر حياتي لكتابة شعر “لا يعد مضيعة للوقت”، لمن يقرأه.. أما على مستوى التجربة، فالفوز بالمركز الأول أعتبره أمراً عظيما في حياتي، وهذه هدية الله لي، وأرجو أن أستغل هذا الزخم المصاحب للجائزة فيما يحبه ويرضاه..

ألقى الله عز وجل القبول في قصيدتي، ربما يكتب شاعر قصيدة رائعة، لكن دون القبول، لن يكون لها أثر في نفس من يسمعها.. وأنتهز هذه الفرصة لأهدي الجائزة إلى صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، بمناسبة عودته سالما إلى أرض الوطن بعد رحلة علاجية في ألمانيا، وأهديها للشعب العماني ولعائلتي وأصدقائي، وكل من ساندني..

 

معجزة كتارا

** كيف ترى الحركة الثقافية والإعلامية في دولة قطر؟

– أرى أن التجربة الإعلامية والثقافية القطرية هي الأهم على المستوى العربي، هناك مشروع إعلامي كبير، ورؤية إعلامية رائدة، ونحن كعرب فخورون بأن هناك دولا عربية تستثمر في الإعلام بهذا الشكل الكبير، سواء على المستوى الثقافي أو الرياضي، أو القيمي، أو التراثي، وتتبنى مشاريع إعلامية هائلة..

زرت قطر أكثر من مرة واطلعت على بعض المشاريع الحضارية والثقافية والتعليمية، وحقيقة المؤسسة العامة للحي الثقافي “كتارا”، في حد ذاتها معجزة، فأن تجعل من هذه المنصة الثقافية الفريدة، وجهة سياحية في نفس الوقت يقصدها مختلف فئات المجتمع المحلي والخليجي والعربي، فهو استدعاء داخلي غير مباشر لجذب المتلقي للتداخل مع هذه المنارة العالية، والمشاركة في الفعاليات والأنشطة الثقافية والرياضة والفنية والعلمية..

وحقيقة هذا ليس غريبًا على دولة قطر، أن تقدم شيئا للأمة العربية الإسلامية، وأنا عهدي بقطر منذ زمن، وأعرف ذلك جيداً، وأنتهز هذه الفرصة، لأوجه من خلال “جريدة الشرق” أسمى معاني الشكر والتقدير للقيادة القطرية الواعية صاحبة الرؤية الفريدة في إنشاء هذا الصرح العظيم، ممثلة في حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وحضرة صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، حفظهما الله، والحكومة القطرية، والشعب القطري الخلوق الذي يعشق الثقافة والتراث والأصالة والتاريخ..

كما أوجه الشكر والتقدير للقائمين على إدارة “كتارا” وعلى رأسهم سعادة الدكتور خالد بن إبراهيم السليطي، المدير العام للمؤسسة العامة للحي الثقافي “كتارا”.. والأستاذ خالد السيد، المشرف على جائزة شاعر الرسول.. ولعل أهم ما يميز جائزة كتارا لشاعر الرسول أنها بعيدة عن أساليب المتاجرة و”الشو الإعلامي” في عملية التصويت، كما يحدث في بعض المسابقات.

قطر بلد مقتدر اقتصاديا، ولها قيادة واعية، وهي مؤهلة أن ترعى مثل هذه الأحداث لأنها تمتلك كل المؤهلات والمقومات، قيادة شابة واعية تدعم الإبداع، وبنية تحتية ثقافية مميزة، وإمكانيات مادية متوافرة ولله الحمد، وشعب محب للثقافة والتراث والتاريخ، ومشاريع عملاقة في شتى المجالات.. لذلك أصبحت قطر محط أنظار الجميع، وهي قادرة على قيادة مسيرة الحركة الثقافية العربية والإسلامية..

 

العودة إلى الداخل

** لكل شاعر رسالة أو قضية يؤمن بها ويدافع عنها من خلال شعره، ما هي رسالتك التي تروج لها؟

– “العودة إلى الداخل” .. هي رسالتي الأسمى، فعلى الإنسان أن يعود إلى داخله، وعلينا أن نبحث عن مفاتيحنا من الداخل، وأنا أسعى من خلال قصيدتي وأسال الله أن يوفقني في ذلك، أن أجذب الإنسان إلى منطقة الوعي الداخلي تجاه الحقيقة الإنسانية، وتجاه هذا التجلي الإلهي، والذي يتمثل في الإنسان الذي هو أعظم خلق.. إذا عدنا إلى الداخل سينتهي كل ما نراه اليوم من خلافات وحروب وكوارث..

 

** ثمة رأي يقول إن المشهد الشعري العربي، أصبح يعاني من كثرة الشعراء وقلة الشعر، ما وجهة نظركم في ذلك؟

– أنا لن أُقيم الشعراء، فكل إنسان له الحق في التعبير عما بداخله، ولكن هناك عقلاء، وهذا واجب العقل الجمعي في المجتمع، والإعلام هو من يقود العقل الجمعي، إذن هذه مسؤولية وسائل الإعلام أن تعي من يجب أن يتصدر المشهد، ومن يجب ألا يكون موجودا، وهذا ليس خطأ الشعراء، بل سوء تقدير الإعلام وسوء فهم لوسائل التواصل الاجتماعي، فكون الشاعر لديه عدد كبير من المتابعين على حسابه، لا يعني أنه شاعر ويجب أن يتصدر المشهد، وهذه ليست مشكلة المتلقي أو المستمع بالمناسبة وإنما مشكلة الإعلام، المشكلة تحتاج لوقت لكي تعالج، وتحتاج لمشروع يتبناه الإعلام تُرشق من خلاله الحالة الشعرية، ويُنتقى فيه الحسن، ويترك الغث..

** تراجع صيت الشعر الديني في العالم العربي، وما عاد له تلك الحظوة التي كانت، ما الأسباب من وجهة نظركم؟

– الشعر ليس له جنسية دينية، فهو إما حسن أو غث، على المستويين الفني والداخلي، وعلينا ألا نصنف الشعر بهذا الشكل.

 

زمن الرواية

** هل يمكن أن نقول إن هذا زمن الرواية بامتياز، وأن الألوان الأدبية الأخرى آن لها أن تتنحى؟

– هذه المقولة صحيحة، فالرواية تحظى باهتمام إعلامي أوسع وحجم مبيعات أكبر، وهذا ليس سيئا بالمناسبة، ربما هذه طبيعة هذه المرحلة أن تتصدر الرواية، كما تصدر الشعر في مراحل سابقة.. والشعراء لا يتحملون المسؤولية كاملة بقدر ما تتحملها وسائل الإعلام المختلفة..

المصدر: جريدة الشرق

التاريخ: 17 أبريل 2016